27.9.08

سكة سفر
أوصلنى اصدقائى إلى حيث مقعدى فى قطار الفجر الذاهب إلى الاسماعيلية
بعد يوم ملىء بالأحداث حتى أننى لا ألحق استيعاب حدث حتى يصفعنى آخر أكثر قوه ولا ألحق أفيق من صفعته حتى يفاجئنى آخر
نزل اصدقائى من القطار بعد أن بدأ بالتحرك
وأنا لازلت أبحث عن مقعدى
وجدته مشغولا فسألت الرجلان الجالسان حيث مقعدى أحد منهما يشغله
أن يترك أحدهم المقعد لى
فنظرا إلى بعضهما فى تحفز كل منهما يحاول أن يفوز بالمقعد المجاور لى
رحل أحدهم بعدما فشلت محاولاته وأخذ شنطته من الرف العلوى وهو مبتئس يشعر بالإحباط وقلة الحظ
وجلست أنا وانطلق القطار
اعتقد أنه لاشىء يسبب التعاسة اكثر من ادراكك أنك ستضطر لقضاء أكثر من ثلاثة ساعات فى قطار رائحته مصدرها بلاليع المجارى واصوات العجل على القضبان تنبئك بحدوث كارثه فى أى لحظة
بطريقة رياضية ممكن أن نصوغها
بما أننا فى مصر
وبما أن الحكومة فى مصر لاتحترم الأرواح وتتعامل مع الموت بمنتهى الاستهتار والامبالاه
إذن صيانة القطارات وتأمينها ضد الحوادث يساوى صفر على الشمال
إذن ركوب القطارات لا يعد شىء أكثر من انتحار بطريقة مشروعة
وبغض النظر عن مكيف الهواء الذى لايتذكر أنه ميكف هواء غير فى الشتاء وفى الساعات الأولى من الفجر حيث البرد الذى يجعل جلدك يقشعر له
رحت بنظرى فى جولة سريعة على الأشخاص من حولى
من يستمع إلى القرآن ويفرض على الدائرة المحيطه به أن يستمعوا إلى مايبثه موبايله بالإكراه لأنه قرر أنه الوقت المناسب لتجميع بعض الثوابات
ومن يحاول القراءة فى صمت
ومن اعد نفسه للإستغراق فى النوم
والكثير من الوجوه الغير مألوفة التى تجعلك تفكر بانه عليك التخلص من هذا الجو وهذا المكان وهؤلاء الأشخاص بمنتهى السرعة
وانه سيكون أبشع شىء لواضطررت أن تمكث مدة أطول مع هؤلاء الذين يشعرونك بالغربة
وأنا
اضع سماعات الإم بى ثرى فى أذناى
أرفع الصوت لأعلى درجة حتى أتغلب على صوت القطار وصوت موبايل الأستاذ مسؤول عن البشرية
وعلكة فى فمى وكانز بين قدماى وأغانى وموسيقى هادئة تبعث فى نفسى هدؤ وسلام وتقبل لكل قذارات الحياة بمنتهى السكينة والرضا
لكنى الآن أشعر بها متلاحقة كانفاس لاهثة
أشعر بها متوترة كانها موسيقى المشهد الأخير من فيلم رعب
كأنها أصوات تلاطم أمواج بحر صاخب وقت العاصفة وقبل السكون التام بعد انفجار قنبلة
ورحت أرانى
فى جزء من الثانية وبدون أى مقدمات وجدت لوح حديد قادم مسرعا من أمامى وأنا أفتح فمى من الدهشة لأجده يشق فكى إلى نصفين ولم ألبث أن استوعب حتى وجدتنى اطير إلى الخلف فينتزع اللوح من بين عظام فكى بمنتهى الألم
ألم لاتستطيع أن تعبر عنه أكثر صرخات العالم قوة
ولم أكد أفكر فى اطلاق صرختى حتى وجدت سقف القطارقد تحطم إلى نصفين مصوبا تجاهى
ورأيت بنطلونى الذى احرص كل الحرص على ألا تلمسه ذرة تراب وهو ملطخ بالشحم والدماء
ورجلى التى كانت تملؤه
وجدت مكانها فراغا فى البنطلون
كأن عروسة لعبه احد ما فك رجلها وألبسها بنطلون ووضع لها رجلها المفكوكة فى البنطلون بدون تركيب
كل ماأفكر ليس الألم
كل ماأفكر هو أنى مشوهه
أريد رؤية كيف يبدو وجهى بمنتهى الإلحاح
حتى أنى رحت أبحث بعينى عن أى قطعة لامعة تعكس لى وجهى
أرى الناس تفر جميعها هاربة
منظر غريب لايتكرر
عندما لايفكر أى شخص إلا فى غريزة البقاء
فى تلك اللحظة ممكن أن يتخلى الشخص عن أى شىء مقابل بقاءه على قيد الحياة
وكانه لو نجى سيعيش كل لحظات السعادة وسيكتشف كل مالم تكتشفه البشرية
وبهذه الرغبة المتوحشة فى البقاء
غادر الركاب جميعهم بمنتهى الفوضى والعنف واللهفة على حياة لو كانوا يعلمون الغيب لأدركوا انها لا تستحق كل هذا العناء
ولم يلحظ أحد وجودى وسقف القطارمثبت بين رجلى المفصولة ورجلى المتصلة بجسدى وبدأ القطار فى الاشتعال
وأنا كل ماأفكر به هو أنى لااستطيع تخيل أنى ساموت الآن ولو عيشت كيف سأحيا وأنا مشوهه هكذا
وأوقات أجد ضحكة لا أفهمها تصدر منى كأنى أقول بها لنفسى
لا
أنا أحلم
هذا ليس حقيقى
واو اشعر بإثارة لمشاركتى فى هذا الحدث أو هذه التجربة
وكأنها لعبة ستنتهى ويرجع كل شىء إلى ماكان قبلها
يعتصرنى الألم وأنا عاجزة عن الصراخ أو طلب المساعدة
مازالت الأغانى تبث فى أذناى وهى أكثر مايوترنى الآن
وقعها ذلك الهادىء المسكتين كقاتل سايكوباتى يطلق النار من مدفعه الرشاش بمنتهى البرود والهدوء وكأنه يلهو بمسدس ماء مع عرائس لعبة وليس مع أناس حقيقيين وبرصاص حى
لاأعلم لماذا اعتقدت حينها أن تلك الموسيقى هى من تسبب فى كل هذا وأنى لاأريد شىء فى تلك اللحظة أكثر من رغبتى فى أن تتوقف
كأنها متعمدة أن تفسد على الشعور بذلك الموقف العصيب
فى تلك اللحظة وجدت كرات من النار تطير فى كل اتجاه فتفحم الكانز بين حذائى والتصق به وساحت السماعات فى أذنى المتفحمة ولكنها مستمرة فى ضخ اغانيها المستفزة إلى كيانى
وكأن كل شىء يحدث وفقا لخطة خفية بأن يظل كل شىء كما هو علية ولكن مشوه قبيح مع الاحتفاظ بهيكله
ووقعت قطرات من سائل مشتعل على رقبتى لتأكل اجزاء من لحمى وتتركها متفحمة
نظرت فوقى فوجدت المزيد من السائل قادم باتجاه رأسى فاغمضت عيناى لينهال على شعرى واجزاء من وجهى
وفى ذروة الاشتعال والاحتراق هدأ كل شىء
كأن اللعبة انتهت أو أنى مت أو أنى استيقظت من اشنع كوابيسى
حاولت فتح عينى ولكنى وجدتها ملتصقة بجفونى
إذن أنا لم أمت ولم أكن أحلم
سمعت أصوات من حولى لأناس تقترب
اشعر بهم يتفحصون المكان
ابكى من الألم فى داخلى ولكن دموعى لا تجد منفذ لها إلا من ثقب صغير فى جنب عينى يسمح ليسرب سرسوب ضعيف منها لتتبخر على عظام وجهى المتفحمة
رأيتهم ينظرون لى فى حسرة وشفقة
يشفقون على سنى الصغير وعلى هذه الموتة الشنيعة
سمعت أحدهم يقول "الله يرحمها شكلها كانت بنت صغيره وحلوه يعينى عليها وعلى اهلها"
ماذااااا
ماهذاااااا
انـــــــت
ماذا تقول أيها الأبله
أنا لم أمت بعد
لا تشفق على أنا أعلم أنى استحق هذا
لا أعلم لماذا استحقه
ولكنى استحقه انا أعلم ذلك
ثم أنى لم امت
لا تتركونى
أنا حية أيها الجهلة
لاتبتعدوا قبل أن يطفىء لى أحدكم تلك الأغانى عديمة الرحمة
لاتتركونى معها بمفردى
واطفأت الأنوار
وذهب البشر
ولم يعد هناك غير أدراكى وموسيقاى
قضيت ليلتها افكر فى اللاشىء مستسلمة للموسيقى وتركتها تعبث بأذناى كما تشاء
وفى الغالب أتت بعض الكلاب الضالة لتلعق جثتى وتبعث بأشلائى
لا لم أقصد جثتى
اقصد جسدى
فأنا مازلت حية
لم أمت بعد أنا متأكدة من ذلك
وغرقت فى سبات عميق لم يفسده شىء ولا حتى تلك الموسيقى التى شاركتنى فيه
فتحت عينى لأجدنى اضغط على الإم بى ثرى فى يدى والكانز مازالت بين قداماى أطفأت الأغانى فى اختبار صغير لها لأجدها تنطفىء بمنتهى البساطه فانتزعت السماعات من أذناى فى فرحة غامرة ونظرت بجانبى لأجد الجالس إلى جوارى قد اختفى فرحت أجرى باتجاه الباب وسألت أحد الركاب"هيا اسماعيليه جت ولا ليسا؟"
ونظرت له منتظرة الرد فإذا به الشخص البائس الذى جعلته يترك المقعد لى ومضى متحسرا على الجلوس بجوار فتاه مثلى نادرا ما تتاح له فرصه مثلها
فقال لى فى بهجة وحماس "لأ ليسا اسماعيليه فاضل عليها بتاع نص ساعه كدا لما تيجى هبقى اقللك اصل انا كمان نازل اسماعيليه"
ورجعت مقعدى وانا اتنفس الصعداء أن كل هذا لم يكن أكثر من حلم وأن لحظات الخطر اوشكت على الانتهاء
ولم أكد أرجع إلى تأملاتى فإذا بهذا الرجل المتحمس أتى بشنطته ووضعها فى الرف العلوى وجلس بجوارى ليحقق ما كان فى مخيلته فى بداية السفر وكأن شىء لم يكن وكأنه سافر بجوارى طوال الطريق
فكرت فى النهوض لأقف فى الخارج قليلا ولكنى قررت ألا أفسد عليه تخيلاته واتركه يشعر بالانتصار وعندما تأتى المحطة يقول لى أنها هى وأنا أشكره ثم ارحل كما من المفترض أن يحدث

18.9.08